إن أغلى موارد الإنسان.. وقته.. تفكيره..مشاعره، ويجمع ذلك كله كلمة “سعيه” (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى).
عندما أسال من حولي ما هي أعلى قيمة لديكم، أجد كثيرا من الحيرة والاستغراب، أو إجابات إنشائية باردة خالية من حرارة الروح، أو إجابات فضفاضة لا تكاد تجد رابطا بينها وبين حال صاحبها، ولا عجب حينئذ من كثرة شكوى الحال وضعف الإنتاج وإدارة الوقت الذات..
أعلم أن سؤالا بهذه الصيغة لن تكون إجابته سهلة وسريعة، إلا أن يكون الشخص قد بلغ مرتبة جيدة من اليقظة وقوة السعي..
تمهل قليلا وفكر بعمق..
ثم اكتب ما جال بخاطرك..
هي صيغة أخرى للسؤال نفسه إلا أنها أشد وطئا وأقوم قيلا، لأنها تستثير النفس اللوامة التي بداخلنا.. التي لا تفتؤ تذكرنا وتلومنا.. ونستطيع سماع صوتها بسهولة، إلا لمن تعود تجاهلها أو إسكاتها!
ما هي القيم العليا؟
لقد شاع اطلاق مصطلح القيم على مستويات مختلفة.. مادية ونفسية وفكرية وأخلاقية واجتماعية، وأريد أن أركز هنا على القيم العليا على المستوى الروحي، وهو أعلى مستوى فيما أسميه هرم القيم، الذي يؤدي التركيز عليه لإصلاح ما تحته، فنحن أضعف من أن نحيط أنفسنا بقيم كثيرة وعالية!
تبدأ رحلة الوعي الذاتي والفهم الحقيقي للنفس والحياة في اللحظة التي تقرر فيها أن تتصرف وفقا لقيمك التي اخترتها بنفسك وتؤمن بها ولم تفرض عليك أو ترتب لك من الآخرين، ويزداد وعيك حينما تبذل وسعك في سبيل تحقيق هذه القيم..
إن القيم العليا هي جذور معتقداتك التي اختارها قلبك والمقياس الذي يرجع إليه عقلك في الحكم على الأشياء سواء بالسوء أو الحسن وبالقبول أو الرفض، بالاقبال أو الادبار، وهي عين البصيرة التي ترى بها ما وراء الأشياء، والمحرك الأول لنبض المشاعر في صدرك، وكل مشاكلنا في الحياة تنتج من نقص قيمة أو من نقص تعاهدها..
لذلك من المهم أن نعرف ما هو أعلى الهرم بالنسبة إلينا، الذي لو صلح يصلح كل شيءٍ، إن القيمة الذاتية العليا تتصل بالغاية التي وجدت لأجلها في هذه الارض، لأنك اذا اصلحت نفسك لهذه القيمة أصلح الله كل حياتك ورزقك الحياة الطيبة التي تتمناها وتسعى لها، بل وستصبح كل القيم الحياتية التي تراود فؤادك و تشعر بتكدسها وأنك مقصر فيها أسهل من أي وقت مضى.
(منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة)
يختلف مستوى القيم من شخص إلى آخر حسب ما تنتهي إليه إرادته (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة) وتختلف أيضا حسب ما سبق في علم الله أنه الطريق الذي يليق بصاحبه (كل ميسر لما خلق له) إلا أنها ترجع وتلتقي قبل اختلافها وتنوع سبلها إلى نداء الفطرة الأول (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)
إن القيم الدنيا “الأقل مستوى” إذا لم يكن لها جذور في القلب الروحي المتصل بخالقه فهي كمثل شجرة ضعيفة تزحف جذورها فوق الأرض مالها من قرار.
إن تجذر القيم في صدرك بالعمق الروحي تجعل من السهل الاحتكام إليها والاسترشاد بها، فهي حينئذ كالمشكاة المضيئة (استفت قلبك ولو أفتاك الناس وأفتوك)، فالحيرة و الضلال والتخبط على الصعيد الديني، والدنيوي ليست من سمات من تصبغ بقيمته العليا.
لا يخلو قلب انسان من قيم ومعتقدات، والمؤمن القوي هو الذي يسعى لقيمه بكل ما اوتي من قوة، فهو منذ زرعت هذه القيمة في صدره يسقيها كل يوم، وقد كتب الله القوة والغلبة في هذه الأرض لمن يعمل أكثر بمقتضى قيمه وإن كانت دنيوية ابتلاء وامتحانا
وفي الجانب الآخر يوجد من الناس من يتعامل مع قيمه كشعارات من غير ترجمة واقعية
إن قيمك التي لم تترجم لأعمال وعادات في تفاصيل يومك ليست قيما بل أمنيات! والقيمة المسيطرة غالبا هي التي تشغلك أغلب الوقت وتشعر أنك تتقدم فيها، لذلك لا تعتد بشيء ولا تعرف نفسك بشيء لم ينطبع في ساعات يومك، فالقيم الذاتية العليا لا تفارق قلب صاحبها، ولا تغيب عن جدول أعماله اليومية، بل هي وقوده الذي يتزود به كلما خارت قواه، ومن فطنته أنه يجعل لنفسه محطات متقاربة يتزود فيها بانتظام ليبقى بأعلى مستوى قوة لديه، وفي الجانب الآخر يوجد من الناس من يتعامل مع قيمه كشعارات من غير ترجمة واقعية، ومنهم يتخذها مسكنات يلجأ إليها عند المشكلات والشدائد، ثم لا يلبث أن ينساها عند الرخاء والسراء وينشغل بمستويات أقل من القيم.
إن أغلى موارد الإنسان وقته.. تفكيره.. مشاعره، ويجمع ذلك كله كلمة واحدة “سعيه”
(وأن ليس للانسان إلا ما سعى) وهو يسعى طوال الوقت، وإن كان جالسا أو واقفا أو ماشيا، لأن القلب الذي هو محل نظر الرب لا يتوقف عن الحركة! تزداد قيمتك ويقوى سعيك حينما تخلي هذا القلب لهم واحد وقيمة كبرى تقود بقية الهموم فتستقيم كلها، وتقل قيمتك حينما تغيب شمس القيمة الكبرى فيتشعب هذا القلب بعدد من الهموم تتصارع فتقع أنت صريعا بينها.
(وأن ليس للانسان إلا ما سعى)
إن المؤمن اليقظ يعرف ماذا يريد وماذا يصلح له وكيف يصل اليه، لأنه اشتغل ابتداء بمراد الله منه، وليس من السهولة بمكان معرفة وجهتك في هذه الحياة، إذ أنت محتاج في كل حين لنور من ربك تبصر به في ظلمة الطريق.
فأري الله منك خيرا.
إن القيم العليا “كالاستقامة” هي بذور يلقيها الله في قلبك وعليك أن تسقيها، تسعد وتطمئن وتسكن بقدر ما تخدم هذه القيم وتحولها إلى أفعال يومية لا ترضى عنها حولا، هي تشريف عظيم وأكثر منه تكليف سبق في علمه تعالى أنك تقدر عليها بعونه(والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) فأري الله منك خيرا.